سورة فاطر - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (فاطر)


        


هذه آية موعظة وتذكير، والإنسان فقير إلى الله تعالى في دقائق الأمور وجلائلها لا يستغني عنه طرفة عين، وهو به مستغن عن كل واحد، والله تعالى غني عن الناس وعن كل شيء من مخلوقاته غني على الإطلاق، و{الحميد} المحمود بالإطلاق، وقوله تعالى {بعزيز} أي بممتنع، و{تزر} معناه تحمل، والوزر الثقل، وهذه الآية في الذنوب والآثام والجرائم، قاله قتادة وابن عباس ومجاهد، وسببها أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين اكفروا بمحمد وعلي وزركم، فحكم الله تعالى بأنه لا يحملها أحد عن أحد، ومن تطرق من الحكام إلى أخذ قريب بقريبه في جريمة كفعل زيادة ونحوه فإنما ذلك لأن المأخوذ ربما أعان المجرم بمؤازرة ومواصلة أو اطلاع على حاله وتقرير لها، فهو قد أخذ من الجرم بنصيب، وهذا هو المعنى في قوله تعالى {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم} [العنكبوت: 13] لأنهم أغووهم، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة بعده، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها بعده» وأنثت {وازرة} لأنه ذهب بها مذهب النفس وعلى ذلك أجريت {مثقلة}، والحمل ما كان على الظهر في الأجرام، ويستعار للمعاني كالذنوب ونحوها، فيجعل كل محمول متصلاً بالظهر، كما يجعل كل اكتساب منسوباً إلى اليد، واسم {كان} مضمر تقديره ولو كان الداعي، ثم أخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه إنما ينذر أهل الخشية وهم الذي يمنحون العلم، أي إنما ينتفع بالإنذار هم وإلا فلنذارة جميع العالم بعثه، وقوله {بالغيب} أي وهو بحال غيبة عنهم إنما هي رسالة، ثم خصص من الأعمال إقامة الصلاة تنبيهاً عليها وتشريفاً لها، ثم حض على التزكي بأن رجى عليه غاية الترجية، وقرأ طلحة {ومن أزكى فإنما يزكي}، ثم توعد بعد ذلك بقوله {وإلى الله المصير}.
قال القاضي أبو محمد: وكل عبارة مقصرة عن تبيين فصاحة هذه الآية، وكذلك كتاب الله كله، ولكن يظهر الأمر لنا نحن في مواضع أكثر منه في مواضع بحسب تقصيرنا.


مضمن هذه الآية طعن على الكفرة وتمثيل لهم بالعمى والظلمات وتمثيل المؤمنين بآرائهم بالبصراء والأنوار، وقوله {ولا النور} ودخول {لا} فيها وفيما بعدها إنما هو على نية التكرار كأنه قال: {ولا الظلمات} والنور، {ولا النور} ولا الظلمات، فاستغنى بذكر الأوائل عن الثواني ودل مذكور الآية على متروكه، و{الحرور} شدة حر الشمس، وقال رؤبة بن العجاج {الحرور} بالليل والسموم بالنهار، وليس كما قال وإنما الأمر كما حكى الفراء وغيره أن السموم يختص بالنهار و{الحرور} يقال في حر الليل وفي حر النهار، وتأول قوم {الظل} في هذه الآية الجنة، و{الحرور} جهنم، وشبه المؤمنين ب {الأحياء} والكفرة ب {الأموات} من حيث لا يفهمون الذكر ولا يقبلون عليه، ثم رد الأمر إلى مشيئة الله تعالى بقوله {إن الله يسمع من يشاء}، وقوله {وما أنت بمسمع من في القبور} تمثيل بما يحسه البشر ويعهده جميعنا من أن الميت الذي في القبر لا يسمع، وأما الأرواح فلا نقول إنها في القبر بل تتضمن الأحاديث أن أرواح المؤمنين في شجر عند العرش وفي قناديل وغير ذلك، وأن أرواح الكفرة في سجين ويجوز في بعض الأحيان أن تكون الأرواح عند القبور فربما سمعت وكذلك أهل قليب بدر إنما سمعت أرواحهم، وكذلك سماع الميت خفق النعال إنما هو برد روحه عليه عند لقاء الملكين.
قال القاضي أبو محمد: فهذه الآية لا تعارض حديث القليب لأن الله تعالى رد على أولئك أرواحهم في القليب ليوبخهم، وهذا على قول عمر وابنه عبد الله وهو الصحيح إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ما أنتم بأسمع منهم»، وأما عائشة فمذهبها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسمعهم وأنه إنما قصد توبيخ الأحياء من الكفرة، وجعلت هذه الآية أصلاً واحتجت بها، فمثل الله تعالى في هذه الآية الكفرة بالأشخاص التي في القبور، وقرأ الحسن بن أبي الحسن {بمسمع من} على الإضافة، ثم سلاه بقوله {إن أنت إلا نذير} أي ليس عليك غير ذلك، والهداية والإضلال إلى الله تعالى و{بشيراً} معناه بالنعيم الدائم لمن آمن، {ونذيراً} معناه بالعذاب الأليم لمن كفر، وقوله تعالى: {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير} معناه ان دعوة الله تعالى قد عمت جميع الخلق، وإن كان فيهم من لم تباشره النذارة فهو ممن بلغته لأن آدم بعث إلى بنيه ثم لم تنقطع النذارة إلى وقت محمد صلى الله عليه وسلم، والآيات التي تتضمن أن قريشاً لم يأتهم نذير، معناه نذير مباشر، وما ذكره المتكلمون من فرض أصحاب الفترات ونحوهم فإنما ذلك بالفرض لا أنه توجد أمة لم تعلم أن في الأرض دعوة إلى عبادة الله، ثم سلى نبيه بما سلف من الأمم لأنبيائهم، و{البينات والزبر والكتاب المنير} شيء واحد، لكنه أكد أوصافه بعضها ببعض وذكره بجهاته و{الزبر} من زبرت الكتاب إذا كتبته، ثم توعد قريشاً بذكره أخذ الأمم الكافرة.


الرؤية في قوله {ألم تر} رؤية القلب، وكل توقيف في القرآن على رؤية فهي رؤية القلب، لأن الحجة بها تقوم، لكن رؤية القلب لا تتركب البتة إلا على حاسة، فأحياناً تكون الحاسة البصر وقد تكون غيره، وهذا يعرف بحسب الشيء المتكلم فيه، و{إن} سادت مسد المفعولين الذين للرؤية، هذا مذهب سيبويه لأن {أن} جملة مع ما دخلت عليه، ولا يلزم ذلك في قولك رأيت وظننت ذلك، لأن قولك ذلك ليس بجملة كما هي {أن} ومذهب الزجاج أن المفعول الثاني محذوف تقديره {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء} حقاً، ورجع من خطاب بذكر الغائب إلى المتكلم بنون العظمة لأنها أهيب في العبارة، وقوله {ألوانها} يحتمل أن يريد الحمرة والصفرة والبياض والسواد وغير ذلك، ويؤيد هذا اطراد ذكر هذه الألوان فيما بعد، ويحتمل أن يريد بالألوان الأنواع، والمعتبر فيه على هذا التأويل أكثر عدداً، و{جدد} جمع جدة، وهي الطريقة تكون من الأرض والجبل كالقطعة العظيمة المتصلة طولاً، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]
كأنّ سراته وحدَّة متنه *** كنائن يحوي فوقهن دليص
وحكى أبو عبيدة في بعض كتبه أنه يقال {جدد} في جمع جديد، ولا مدخل لمعنى الجديد في هذه الآية، وقرأ الزهري {جَدد} بفتح الجيم، وقوله {وغرابيب سود} لفظان لمعنى واحد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبغض الشيخ الغربيب»، يعني الذي يخضب بالسواد، وقدم الوصف الأبلغ، وكان حقه أن يتأخر وكذلك هو في المعنى، لكن كلام العرب الفصيح يأتي كثيراً على هذا النحو، وقوله {مختلف ألوانه} قبله محذوف إليه يعود الضمير تقديره {والأنعام} خلق {مختلف ألوانه}، {والدواب} يعم الناس والأنعام لكن ذكرا تنبيهاً منهما، وقوله {كذلك} يحتمل أن يكون من الكلام الأول فيجيء الوقف عليه حسناً، وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين، ويحتمل أن يكون من الكلام الثاني يخرج مخرج السبب كأنه قال كما جاءت القدرة في هذا كله، {إنما يخشى الله من عباده العلماء} أي المحصلون لهذه العبرة الناظرون فيها.
قال القاضي أبو محمد: وقال بعض المفسرين الخشية رأس العلم، وهذه عبارة وعظية لا تثبت عند النقد، بل الصحيح المطرد أن يقال العلم رأس الخشية، وسببها والذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «خشية الله رأس كل حكمة»، وقال صلى الله عليه وسلم: «رأس الحكمة مخافة الله»، فهذا هو الكلام المنير، وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية كفى بالزهد علماً، وقال مسروق وكفى بالمرء علماً أن يخشى الله، وقال تعالى: {سيذكر من يخشى} [الأعلى: 1] وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«أعلمكم بالله أشدكم له خشية»، وقال الربيع بن أنس: من لم يخش الله فليس بعالم، ويقال إن فاتحة الزبور رأس الحكمة خشية الله. وقال ابن مسعود: كفى بخشية الله علماً وبالاغترار، به جهلاً، وقال مجاهد والشعبي: إنما العالم من يخشى الله، وإنما في هذه الآية تخصيص {العلماء} لا للحصر، وهي لفظة تصلح للحصر وتأتي أيضاً دونه، وإنما يعلم ذلك بحسب المعنى الذي جاءت فيه، فإذا قلت إنما الشجاع عنترة، وإذا قلت إنما الله إله واحد، بان لك فتأمله، وهذه الآية بجملتها دليل على الوحدانية والقدرة والقصد بها إقامة الحجة على كفار قريش.

1 | 2 | 3 | 4 | 5